الثلاثاء، 7 مارس 2017

متفرقات في الرياضيات والفلسفة

بواسطة : Med maths بتاريخ : 1:26 م

سنناقش في هذه المقالة مجموعة من المسائل التي قد تبدو بديهيةً لأول وهلة ولكنها  تتصل بقضايا جوهرية في الفلسفة والرياضيات والكون. لا أهدف هنا – في معظم الطروحات- إلى تقديم إجابات، وإنما إلى تنبيه الأذهان إلى اسئلة قد تبدو بسيطة ولكنها ذات مغزى فلسفي عميق. لنبدأ إذن وبالله نستعين.
1 + 1 = 2؟
لا اعتقد أنه توجد علاقة في الرياضيات أبسط من هذه. ولكن دعونا ننسى –ولو مؤقتاً- جميع الحواجز النفسية التي وضعها التعليم والمجتمع في عقولنا إذ أوهمنا بأننا أصبحنا ذوي معرفة عميقة، دعونا ننسى تلك الحواجز مؤقتاً ولنتجرأ ولنسأل، لماذا؟ لماذا 1 + 1 = 2؟ اعتقد أن معظمنا سيشعر بالغيظ والضيق لو سأله أحد هذا السؤال، فالعلاقة واضحة بداهةً. ضع السبابة بجانب الوسطى وستجد أن لديك أصبعان. ضع تفاحة بجانب تفاحة وستملك الآن تفاحتين. ولكن لو تأملنا قليلاً في هذه “البراهين” لوجدنا أنها تقوم على أمرين اثنين:
1- أنها تعتمد على الواقع الفيزيائي لبرهان علاقة رياضية، الأمر الذي يطرح السؤال التالي، هل الرياضيات علم “مجرد” لا علاقة له بالواقع الفيزيائي أم أنه يعتمد “حتماً” على ذلك الواقع؟ وبالتالي من الممكن أن نتخيل عالماً آخراً نجد فيه مثلاً 1 + 1 = 3؟
2- أن هذه البراهين – كحال معظم النظريات الفيزيائية – تعتمد على الاستقراء. أي أنها تنتقل بالتعميم من مجموعة مشاهدات محدودة إلى جميع الظواهر. فمثلاً لو أنك أمسكت علبة تحوي 10 بيضات، ولاحظت أن تاريخ الصلاحية قد انتهى منذ شهرين. ومع ذلك قمت بكسر أول بيضة لتجد رائحة العفن الرائعة قد فاحت وملأت المكان. ثم كسرت الثانية لتجد أنها أيضاً عفنة. ومع ذلك تابعت مهمتك النبيلة بشجاعة حتى كسرت 9 بيضات وأصبحت رائحة المكان لا تطاق. والسؤال الآن، ماذا ستقول عن البيضة العاشرة؟ معظمنا سيقول أن هذه البيضة حتماً عفنة. ولكن حتماً هنا ليست جازمة، حتماً هنا تشير إلى توقعنا، لا إلى الواقع. إذ من الممكن أن تكسر البيضة فتظهر لك طازجةً لماعةً بصفارها الرائع وكأن الدجاجة قد باضتها للتو!
وبما أن هذه “البراهين” تقوم على الاستقراء، إذاً من الممكن أن نجد غداً مجموعة من العناصر التي تحقق مثلاً 1 + 1 = 3، أو هل يمكن ذلك؟
يمكن أن ننظر إلى الأمثلة السابقة لا على أنها براهين، ولكن على أنها “أمثلة” لهذه العلاقة، وهنا نعود إلى نقطة البداية، لماذا 1 + 1 = 2؟
هنالك نقطة مهمة في هذه العلاقة وفي معظم الرياضيات عموماً (يمكن استثناء نظرية الاحتمال مما سيأتي)، وهي أنه من الممكن بمجرد التفكير فقط أن نقوم بعملية الجمع. يمكن أن أفكر بأن لدي سبابة ووسطى، وبالتالي أنا الآن أفكر بأصبعين، بـ 1 + 1. والنتيجة حتماً 2 ولن تتغير حتى لو وضعت السبابة بجانب الوسطى فاختفت السبابة، أو ظهر أصبع ثالثة بينهما. هذه الظواهر الفيزيائية “لن تغير” من حسابي الذهني شيئاً. وهذه الفكرة تدفعنا إلى سؤال بين قوسين وهو: إذا كانت الرياضيات عملية ذهنية بحتة لا علاقة لها بالواقع الفيزيائي، فلماذا نستخدم الرياضيات لتوصيف ذلك الواقع؟ ولماذا نجحنا (حتى الآن) في اكتشاف قوانين رياضية للواقع؟
ملاحظة أخيرة قبل الانتقال إلى فكرة أخرى، وهي أنه يمكن أن نفرق بين أمرين، بين المعاني التي تحملها الرموز، وبين الرموز نفسها. فمثلاً تتكون العلاقات التالية في الأصل من تتالي من الرموز.
I + I = II
A + A = B
وبإعطاء هذه العلاقات معاني معينة يمكن جعلها مكافئة للعلاقة السابقة. تقودنا هذه الفكرة إلى ما يسمى البراهين الصُّورية (Formal Proofs). والتي تعني أنه يمكن إيجاد مجموعة من المسلمات التي يمكن باستخدامها وباستخدام المنطق الصُّوري (Formal Logic) الوصول إلى سلسلة من الرموز تكافئ 1 + 1 = 2. ونقول عن علاقة أنها صحيحة إذا أمكن الوصول لسلسلة الرموز المكافئة انطلاقاً من المسلمات. في البراهين الصورية لا نعتمد على المعاني للبرهان، وإنما نعتمد فقط على التعامل مع الرموز بطريقة ميكانيكية.
الاحتمالات: عندما يقع الحدث المستحيل!
(ملاحظة: يتطلب هذا المقطع بعض الإلمام بنظرية الاحتمالات، ويمكن تجاوزه إلى الفكرة التالية)
من أكثر القضايا التي أربكتني أثناء دراستي لنظرية الاحتمالات هي فكرة المتحولات العشوائية المستمرة. فمثلاً لنأخذ المتحول العشوائي المنتظم المعرف على المجال بين الصفر والواحد. بمعنى أننا نختار بشكل عشوائي رقم حقيقي بين الصفر والواحد، كيف يمكن دراسة احتمالات هذه التجربة؟
تنص كتب الاحتمالات (وتباً لتلك العبارة) على تعريف تابع يسمى تابع الكثافة الاحتماليةلدراسة هذا النوع من المتحولات العشوائية. يمكن حساب الاحتمال بأن نكامل هذا التابع على المجال المطلوب. فمثلاً، احتمال أن يكون الرقم بين 0 و 0.5 هو
clip_image002
حيث f هو تابع الكثافة الاحتمالية. وتظهر المشكلة عند المقارنة مع المتحولات العشوائية المتقطعة. فمثلاً في تجربة اختيار رقم طبيعي بشكل عشوائي بين 1 و10 نجد أن احتمال ظهور أي رقم هو (0.1). هل يمكن لنا أن نسأل نفس السؤال في حالة المتحولات العشوائية المستمرة؟ ما هو احتمال ظهور الرقم 0.25 مثلاً في تجربة اختيار رقم حقيقي بين الصفر والواحد؟
إن تعريف الاحتمال بالتكامل يؤدي حتماً إلى النتيجة “المربكة” التالية: احتمال ظهور أي رقم محدد هو 0! فمثلاً يمكن حساب احتمال ظهور الرقم x كالتالي:
clip_image002[5]
وذلك لأن التكامل ينعدم عند تطابق حديه. والسؤال الذي يطرح نفسه: إذا كان احتمال ظهور أي رقم هو الصفر، كيف يمكن أن يكون احتمال ظهور مجموعة من الأرقام (مثل المجال المحصور بين 0 و 0.5) أكبر من صفر؟
يمكن إعادة طرح السؤال بطريقة أخرى، تصور لو أننا وضعنا كل رقم حقيقي من المجال المحصور بين 0 و1 في مجموعة مستقلة. إذاً أصبح لدينا عدد كبير من المجموعات، كل مجموعة تحوي رقماً واحداً. وتعبر كل مجموعة عن الحدث الذي يقع عندما يظهر الرقم الحقيقي الموجود فيها. وبما أن كل مجموعة تحوي رقماً واحداً فقط، إذاً احتمال وقوع هذا الحدث هو 0. ولكن لابد أن يظهر أحد الأرقام بين الصفر والواحد، أي لابد أن يقع أحد الأحداث السابقة التي احتمال كل واحد منها هو الصفر، أي لابد أن يقع الحدث المستحيل!
بدايةً قد يشعوذ أحد الدكاترة على طلابه (وكثيراً ما يشعوذون) فيقول بأن هذه هي صفة المتحولات العشوائية المستمرة! والواقع أن هذا “الجواب” لا علاقة له بالسؤال، فالسؤال لم يكن: ما هو نوع المتحولات العشوائية الذي يتمتع بهذه الصفة؟. وقد ذكرنا صراحةً في البداية أننا نتعامل مع المتحولات العشوائية المستمرة، وسؤالنا هو: لماذا؟ ألا يمثل ذلك تناقضاً منطقياً صريحاً؟
الواقع أن جواباً (جزئياً) يمكن أن يكون كالتالي: تعرف الاحتمالات في المتغيرات العشوائية المستمرة بالمساحة التي تشغلها مجموعة. (الواقع أن السكوت هنا لا يعدو عن كونه أحد أنواع الشعوذة الأخرى التي يمكن ممارستها: إلقاء بضع كلمات دون وجود محتوى حقيقي، ولذلك لابد من التفصيل للخروج من هذا المأزق!).
تصور لو أن لديك مربعاً، وأريد أن اختار نقطة منه بشكل عشوائي، ما هو احتمال أن تقع هذه النقطة في النصف العلوي؟ الجواب البديهي هو 0.5 (وبرهانه الرياضي يعتمد على التناظر، إذ أن تدوير المربع 180 درجة يؤدي إلى الحصول على نفس المربع تماماً مع تحول النصف العلوي إلى سفلي، وبما أنه لا يمكن أن نفرق بين الحالتين (قبل وبعد الدوران) فإن احتمال النصف العلوي يساوي تماماً احتمال النصف السفلي، ومجموع الاحتمالين هو 1 (لماذا؟)، إذاً احتمال كل نصف هو 0.5). يمكن بديهياً استنتاج أن الاحتمال يتناسب مع مساحة المنطقة. إذاً يمكن حساب الاحتمال عن طريق إيجاد تابع يحسب مساحة المجموعة. ولكن، لو اخترنا نقطة معينة من المربع السابق، وسألنا، ماهي مساحة هذه النقطة؟ النقطة لا سطح لها، ومساحتها صفر (هنالك برهان رياضي أيضاً لهذه الفكرة ولكن سأكتفي بالبديهة). فالمساحة لا تنتج من نقطة وإنما من تجاور مجموعة من النقاط. وبالتالي فمساحة المجموعة المكونة من نقطة واحدة هي الصفر. وبما أن الاحتمال يكافئ المساحة، فاحتمال المجموعة هو صفر.
دعنا نتأمل قليلاً في التفسير السابق. برر هذا التفسير الانتقال من الاحتمال الصفري في حالة المجموعات المكونة من عنصر واحد إلى احتمالات أكبر من صفر في حالة المجموعات المكونة من تجاور عدد من النقاط التي تشكل سطحاً ذي مساحة. ولكن السؤال الذي بقي قائماً، هذا التعريف أدى إلى وقوع أحداث احتمالها صفر، فكيف يمكن توفيق ذلك مع نظرية الاحتمال؟ أليس الحدث المستحيل هو الحدث ذي الاحتمال الصفري؟
الواقع أن استخدام المساحة في تعريف الاحتمالات انعكست على نظرية الاحتمال نفسها. فالحدث المستحيل هو الحدث الذي لا يقع أبداً، أما الحدث شبه المستحيل (Almost never) هو الحدث ذي الاحتمال الصفري، ولكن يمكن أن يقع! وبالتالي وفي المتحولات العشوائية المستمرة، الاحتمال الصفري لا يعني بالضرورة استحالة الوقوع، وإنما قد يعني أن المساحة معدومة.
فيثاغورث والمسطرة وأضواء النجوم!
يمكن تصنيف علاقة فيثاغورث في المثلث القائم ضمن العلاقات الرياضية الأكثر شهرة، وتنص ببساطة على أن مربع طول الوتر يساوي مجموع مربعي الضلعين القائمين.
200px-3-4-5_triangle.svg
الشكل الأول: حسب فيثاغورث 25 = 9 + 16
يمكن إعادة صياغة علاقة فيثاغورث بعدة طرق، أشهرها هي فكرة المسافة بين نقطتين. فلو كان لدينا نقطتين إحداثيات الأولى (x1,y1) وإحداثيات الثانية هي (x2,y2). فإن المسافة بينهما تعطى بالعلاقة التالية
clip_image002[7]
أو كما تعلمنا في المدرسة: المسافة بين نقطتين تساوي الجذر التربيعي لـ (مربع الفرق بين السينات زائد مربع الفرق بين العينات).
ولكن لنتوقف لحظة، ماذا تعني “المسافة” هنا؟ أو بعبارة أدق، كيف يمكن قياس المسافة بين نقطتين؟ تتعلق عملية القياس بتحديد واحدة كالمتر مثلاً، ثم قياس عدد مرات تكرار هذه الواحدة لقطع المسافة بين النقطتين. وهنا تكمن المشكلة. لا يوجد أي شيء في العلاقة الرياضية السابقة يشير إلى أنه يجب أن يتم تعريف المسافة بهذا الشكل. وبعبارة أخرى، لا يوجد ما يشير إلى أن المسطرة يجب أن تكون خطية ومنتظمة، لماذا لا يتم تعريف المسافة بمسطرة لوغاريتمية مثلاً؟ قد يبدو ذلك غريباً للوهلة الأولى، ولكن لنفكر قليلاً في ذلك.
فالعين البشرية مثلاً تتحس الضوء بمقياس لوغاريتمي. فعندما ننظر إلى السماء نجد نجوماً بشدات سطوع مختلفة. تبين الصورة التالية كوكبة الجبار (Orion constellation) كما ترى من الأرض:
Abrams13c
الشكل الثاني: كوكبة الجبار كما ترى من الأرض. لاحظ تباين السطوع بين النجوم.
من الواضح أن هنالك نجوماً أشد سطوعاً من نجوم أخرى. والواقع أن السطوع الذي نراه بأعيننا لا يعبر عن السطوع الحقيقي. لعدة أسباب، بعضها يتعلق بالنجوم نفسها، إذ أن شدة السطوع تتعلق بالمسافة، وبالتالي النجوم الأبعد ستبدو أقل سطوعاً من النجوم القريبة. ومنها ما يتعلق بعين الإنسان، فحساسية العين للسطوع لوغاريتمية، والعلاقة التالية تربط شدة إضاءة النجوم كما تراها العين مع شدة إضاءتها الحقيقة:
clip_image002[11]
تستخدم هذه العلاقة للمقارنة بين نجمتين. إضاءة الأولى الظاهرية هي m1 والثانية m2. وشدة الإضاءة الحقيقة هي f1 و f2. لاحظ أنه إذا كانت الثانية أشد من الأولى ب100 مرة، فإن العين البشرية سترى أن الثانية ضعف الأولى.
وحساسية الإذن للصوت لوغاريتمية أيضاً. فلماذا لا يكون شعورنا بالمسافة لوغاريتمياً؟ وبالتالي يجب أن نستخدم مسطرة لوغاريتمية لقياس المسافة كالتالي:
arthlogs
الشكل الثالث: مقارنة بين مقياس خطي كالمسطرة العادية (القسم العلوي) ومقياس لوغاريتمي (القسم السفلي)
يظهر الشكل السابق العلاقة بين المسطرة العادية والمسطرة اللوغاريتمية. لاحظ أنه عند قطع نفس المسافة تتضاعف القيمة في المسطرة اللوغاريتمية، وهذا ما يظهر جلياً عند الانتقال مسافات مساوية للمسافة بين 1 و 2. نلاحظ أن الأرقام عند هذه المسافات هي 4، 8، 16.
الهدف هنا ليس عرض البرهان الرياضي لوجوب استخدام المسطرة العادية في حساب المسافات في الهندسة الإقليدية (وحتماً هنالك برهان)، ولكن الإشارة إلى أن استخدام هذه المسطرة ليس بديهياً وأنه يحتاج إلى برهان.
خاتمة
لا يتبدى جمال العلم بشكل عام والرياضيات بشكل خاص إلا إذا تحررنا من عملية التلقين وبدأنا نسأل ونفكر دون أن نلزم أنفسنا بالقناعة بما يمليه علينا الآخرون. فإذا اقتنعنا أكملنا، وإذا لم نقتنع توقفنا وسألنا. وما طرحته هنا مجرد ومضات من قضايا قد نظنها بسيطة ولكنها ترتبط مباشرة بفلسفة العلم والكون.

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق

جميع الحقوق محفوظة | | Contact US | إتصل بنا

ذ. محمد علالي